-->
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

البيان - مصطفى لطفي المنفلوطي

 البيان - المنفلوطي

 


 علمه البيان . [ الرحمن: 4] 

قال لي أحدُ الرؤساء ذات يوم: "إني لتأتيني أحيانًا رِقاعُ الاستعطاف فأكاد أُهملها - لِما تشتملُ عليه من الأساليب المنفِّرة - لولا أن الله تعالى يُلهِمني نيَّات كاتبيها، وأين يذهبون، ولولا ذلك لكنتُ من الظالمين".

 

ذلك ما يراه القارئُ في كثيرٍ من المخطوطات التي يخطُّها اليوم كاتبوها في الصحفِ، ورِقاع الشكوى، والكتب الخاصة، والمؤلَّفات العامة.

 

هَزْل في موضع الجِدِّ، وجِدٌّ في موضع الهَزْل، وإسهاب في مكان الإيجاز، وإيجاز في مكان الإسهاب، وجهلٌ بفَرْق ما بين العتاب والتأنيب، والانتقام والتأديب، والاستعطاف والاستخفاف، وقصورٌ عن إدراك منازلِ الخِطاب ومواقفه بين السُّوقة والأمراء، والعلماء والجهلاء، حتى إن الكاتبَ لَيُقِيم في الشوكة يُشاكُها مَناحةً لا يُقِيمها في الفاجعة يُفجَع بها، ويكتب في الحوادث الصغار، ما يعجز عن كتابة مثلِه في الحوادث الكبار، ويخاطِبُ صديقَه بما يخاطب به عدوَّه، ويناجي أجيرَه، بمثل ما يناجي به أميرَه.

 

ذهَب الناس في معنى البيان مذاهبَ متفرِّقة، واختلفوا في شأنه اختلافًا كثيرًا، ولا أدري علامَ يختلفون، وأين يذهَبون، وهذا لفظه دالٌّ على معناه دلالة واضحة لا تشتبهُ وجوهُها، ولا تتشعَّبُ مسالكُها.

ليس البيان إلا الإبانةَ عن المعنى القائم في النَّفس، وتصويرَه في نظر القارئ أو سمعِ السامع تصويرًا صحيحًا لا يتجاوزُه ولا يقصُرُ عنه، فإن علِقَتْ به آفةٌ من تَيْنِكَ الآفتَيْنِ، فهو العِيُّ والحَصَرُ.


جهِل البيانَ قومٌ فظنوا أنه الاستكثارُ من غريب اللغةِ، ونادر الأساليب، فأغصُّوا بها صدورَ كتاباتِهم، وحشَوْها في حلوقها حشوًا يقبض أوداجَها، ويحبِسُ أنفاسَها، فإذا قُدِّر لك أن تقرَأَها، وكنتَ ممن وهبهم الله صدرًا رحبًا، وفؤادًا جَلْدًا، وجَنانًا يحتمل ما حُمِل عليه من آفات الدَّهر ورزاياه - قرأتَ متنًا مُشوَّشًا من متون اللُّغة، أو كتابًا مضطربًا من كُتُب المترادفات.

وجهِله آخَرون فظنوا أنه الهذَرُ في القول، والتبسُّط في الحديث، واقعًا ذلك من حال الكلام ومقتضاه حيث وقَع، فلا يزالون يجترُّون بالكلمة اجترار الناقة بجرَّتِها، ويتمطَّقون بها تمطُّقَ الشِّفاهِ بريقتِها، حتى تسفَّ، وتتبذل، وحتى ما تكاد تُسيغُها الحُلوقُ، ولا تطرِفُ عليها العيونُ، وهم يحسَبون أنهم يُحسِنون صُنعًا!

يخيَّل إليَّ أن الكتَّابَ في هذا العصر يكتُبون لأنفسهم أكثرَ مما يكتبون للناس، وأن كتابتَهم أشبهُ شيءٍ بالأحاديث النفسية التي تتلجلجُ مِن نفسِ الإنسان حينما يخلو بنفسه، ويأنَسُ بوَحدتِه؛ فإني لا أكاد أرى بينهم مَن يضعُ فمَه على أُذنِ السامع وَضْعًا محكَمًا، وينفُثُ في رُوعِه ما يريد أن ينفُثَ من خواطرِ قلبِه، وهواجسِ نفسِه.

البيان صلةٌ بين متكلِّم يفهم، وسامع يفهم، فبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكونُ منزلة الكاتب من الرِّفعة والسقوط، فإن أردتَ أن تكونَ كاتبًا، فاجعَلْ هذه القاعدة في البيان قاعدتَك، واحرِصِ الحرصَ كلَّه على ألا يخدَعَك عنها خادعٌ، فتسقُطَ مع الساقطين.

ما أُصيبَ البيانُ العربيُّ بما أُصيب به إلا من ناحية الجهل بأساليبِ اللغة العربية، ولا أدري كيف يستطيعُ الكاتب أن يكونَ كاتبًا عربيًّا قبل أن يطَّلع على أساليبِ العرب في أوصافِهم ونعوتِهم، ومدحِهم وهَجْوِهم، ومحاوراتهم ومُساجَلاتهم، وقبل أن يعرِفَ كيف كانوا يُعاتِبون ويؤنِّبون، ويَعظِون وينصحون، ويتغزَّلون وينسُبون، ويستعطفون ويسترحِمون، وبأيِّ لغة يحاول أن يكتب ما يريدُ إن لم يستمدَّ تلك الرُّوحَ العربية استمدادًا يملأ ما بين جوانحه حتى يتدفَّقَ مع المِداد من أنبوبِ يَرَاعِه على صفحاتِ قِرطاسِه.

إني لأقرأُ ما كتَبه الجاحظُ وابنُ المقفَّع والصاحب الصابئ والهمَذاني والخُوَارِزْميُّ وأمثالُهم من كتَّابِ العربيَّة الأولى, ثم أقرأ ما خطَّه هؤلاء الكاتِبون في هذه الصحفِ والأسفار، فأشعُرُ بما يشعرُ به المنتقل دفعةً واحدة من غرفة محكَمةٍ نوافذُها، مسبَلةٍ ستورُها، إلى جوٍّ يسيل قُرًّا وصِرًّا، ويترقرق ثلجًا وبردًا.

ذلك لأني أقرأُ لغة لا هي بالعربية فأغتبطَ بها، ولا هي بالعامية فأتفكَّهَ بهذَيانِها ومُجونها.

رأيتُ أكثر الكاتبين في هذا العصر بين رجُلين:

رجلٍ يستمد رُوح كتابتِه من مطالَعة الصحف، وما يشاكلُها في أساليبها من المؤلَّفات الحديثة، والرِّوايات المترجَمة، وربما كان كتَّابُ تلك المخطوطاتِ أحوَجَ من قارئيها إلى الاستمدادِ، فإذا علِقَتْ بنفسِه تلك المَلَكة الصحفية ألقى بها في رُوعِ قارئِ كتابتِه أدونَ مما أخَذها، فيُدلي به آخذها كذلك إلى غيرِه أسمَجَ صورةً، وأكثرَ تشويهًا، وهكذا حتى لا يبقى فيها من رُوح العربيَّة إلا كما يبقى من الأطلالِ البالية بعد كرِّ الغَداةِ، ومرِّ العَشيِّ.

وطالبٍ قصارى ما يأخُذُ عن أستاذِه نحوُ اللغة وصرفُها، وبديعُها وبيانُها، ورسمُها وإملاؤُها، ومفرداتُها ومتونُها، ومؤتَلِفاتها ومختلفاتُها، وغير ذلك من آلاتها وأدواتها، أما رُوحها وجوهرها فأكثرُ أساتذةِ البيان في المدارس علماءُ غيرُ أدباء، وحاجة طالب اللغة إلى أستاذٍ يُفيض عليه رُوح اللغة ويوحي له بسرِّها، ويُفضي إليه بلبِّها وجوهرِها - أكثرُ مِن حاجته إلى أستاذٍ يُعلِّمه وسائلَها وآلاتِها، وعندي أن لا فرقَ بين أستاذ الأخلاقِ وأستاذ البيان، فكما أن طالب الأخلاقِ لا يستفيدُها إلا من أستاذ كمُلتْ أخلاقه، وحسُنتْ آدابه، كذلك طالبُ البيان لا يستفيده إلا مِن أستاذ مُبين.

ولا يُقذَفَنَّ في رُوعِ القارئ أني أحاول استلابَ فضلِ الفاضلين، أو أني أُنكِر على فصحاء هذه اللغة ما وهَبهم اللهُ من نعمة البيان، فما هذا أردتُ، ولا إليه ذهبتُ، وإنما أقول: إن عشَرةً من الكتَّاب المجيدين، وخمسةً من الشعراء البارعين، قليلٌ في بلدٍ يقولون عنه: إنه بلدُ اللغة العربية اليوم، ومَرْعاها الخَصِيب.

وبعد؛ فإني لا أرى لك - يا طالبَ البيانِ العربي - سبيلاً إليه إلا مزاولةَ المُنشئات العربية؛ مَنثُورها ومنظومها, والوقوف بها وقوف المتثبِّت المتفهِّم، لا وقوف المتنزِّه المتفرِّج، فإن رأيتَ أنك قد شغفت بها، وكلِفْتَ بمعاودتها والاختلاف إليها، وأن قد لذَّ لك منها ما يلذُّ للعاشق من زورة الطَّيفِ في غرَّة الظلام، فاعلَمْ أنك قد أخذتَ من البيانِ بنصيبٍ، فامْضِ لشأنك ولا تَلْوِ على شيء مما وراءَك حتى تبلغَ من طَلِبَتِكَ ما تريد.

ولا تُحدِّثَنَّكَ نفسُك أني أحمِلك على مطالعة المنشئات العربية لأسلوب تستَرِقُه، أو تركيب تختَلِسُه؛ فإني لا أحب أن تكونَ سارقًا ولا مختلِسًا، على أنك إن ذهبتَ إلى ما ظننتَ أني أذهبُ إليه في نصيحتِك، لم يكنْ دركُكَ دركًا، ولا بيانُك بيانًا، وكان كلُّ ما أفدتَه مِن ذلك أن تخرِجَ للناس من البيان صورةً مشوَّهةً، لا تناسُبَ بين أجزائِها، وبُردةً مرقَّعة لا تشابُهَ بين ألوانها، وإنما أريد أن تحصلَ لنفسك مَلَكة في البيان راسخة، تصدر عنها آثارها بصورةٍ واحدة؛ حتى لا يكون شأنُك شأنَ أولئك الذين قد علقت ذاكرتُهم بطائفة من منثور العرب ومنظومِها، فقنعوا بها, وظنُّوا أنهم قد بلَغوا من اللغة ما أرادوا، فإذا جدَّ الجِدُّ، وأرادوا أنفسَهم على الإفصاح عن شيء من خلَجاتِ نفوسِهم - رجَعوا إلى تلك المحفوظات، ونبَشوا دفائنها، فإن وجَدوا بينها قالبًا لذلك المعنى الذي يُريدونه، انتزَعوه من مكانِه انتزاعًا، وحشَروه في كتابتهم حَشْرًا، وإلا تبذَّلوا باستعمال التراكيب الساقطة المشنوعة، أو هجَروا تلك المعانيَ إلى مَعانٍ أخرى غيرها، لا علاقةَ بينها وبين سابقاتها ولاحقاتها؛ فلا بدَّ لهم من إحدى السَّوْءتينِ، إما فساد المعاني واضطرابها، أو هُجنة التراكيبِ وبشاعتها.

فاحذَرْ أن تكونَ واحدًا منهم، أو أن تصدِّقَ ما يقولونه في تلمُّسِ العُذر لأنفسهم من أن اللغةَ العربية أضيَقُ من أن تتَّسعَ لجميع المعاني المستحدَثة، وأنهم ما لجَؤوا إلى التبذُّل في التراكيب إلا لاستحالةِ الترفُّعِ فيها؛ فاللغةُ العربية أرحَبُ صدرًا مِن أن تضِيقَ بهذه المعاني العامَّةِ المطروقة بعدما وسِعَتْ من دقائق العلوم ما لا قِبَل لغيرِها باحتمالِه، وقدَرَتْ مِن هواجِسِ الصدور وأحاديثِ النفوس وسرائرِ القلوبِ على الذي عيِيَتْ به اللغاتُ القادراتُ.

وليس الشأنُ في عَجْزِ اللغة وضِيقها؛ وإنما الشأنُ في عجزِ المشتغلين بها عن الاضطرابِ في أرجائها، والتغلغل في أعماقِها، واقتناعِهم مِن بحرها بهذه البلَّةِ التي لا تُثلِجُ صدرًا، ولا تَشفي أُوَامًا.

 

 

وكلُّ ما يعدُّ عليها من الذنوب أنها لا تشتملُ على أعلامٍ لهذه الهَنَاتِ المستحدَثةِ, وهو في مذهبي أقلُّ الذنوب جُرمًا، وأضعفُها شأنًا، ما دمنا نعرفُ وجهَ الحِيلة في علاجِه بالاشتقاق إن وجدنا السبيلَ إليه، أو التعريب والوَضْعَ إن عجزنا عن الاشتقاق؛ فالأمر أهونُ مِن أن نحارَ فيه، وأصغرُ من أن نقضي أعمارَنا في الوقوف ببابه، والأخذ والرد في شأنه، والمساجلة والمناظرة في اختيار أقربِ الطرق إليه، وأجداها عليه.

 

واعلَمْ أنه لا بد لك من حُسن الاختيار فيما تريد أن تزاولَه من المنشئات العربية؛ فليس كلُّ متقدِّم ينفَعُك، ولا كل متأخِّر يضرك، ولا أحسبك إلا واقفًا بين يدي هذا الأمر موقفَ الحَيرةِ والاضطراب؛ لأن حُسنَ الاختيار طَلِبةٌ تتعثَّر بين يديها الآمال، وتتقطَّع دونها أعناقُ الرجال؛ فالجأ في ذلك إلى فطاحلِ الأدباء الذين تعرِفُ ويعرف الناس منهم ذوقًا سليمًا، وقريحةً صافية، ومَلَكة في الأدب، كأنها مِصفاة الذهب، فإن فعلتَ وكنت ممن وهَبهم الله ذكاءً وفِطْنة وقريحة خصبة ليِّنة صالحة لنماءِ ما يلقى فيها من البذور الطيبة، عُدْتَ وبين جنبيك مَلَكة في البيان زاهرة، يتناثرُ منها منثورُ الأدبِ ومنظومُه تناثُرَ الورودِ والأنوار، مِن حديقةِ الأزهار.



عن الكاتب

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

Labels

Labels

زوار المدونة

احصاءات المدونة

جميع الحقوق محفوظة

Mohamed Mortada

2016