الناشئ الفقير
من كتاب: النظرات.
مصطفى لطفي المنفلوطي
( كتب الكاتب هذه الرسالة جوابًا عن سؤال: "أيهما أصلح للإنسان: أن يولد فقيرًا، أو غنيًّا؟".(
لي ولد وحيد في السابعة من عمره، لا
أستطيع - على حبي إياه، وافتتاني به - أن أتركه من بعدي غنيًّا؛ لأني فقير، وما
أنا بآسفٍ على ذلك ولا مُبتئس؛ لأني أرجو بفضل الله وعونه، ورحمته وإحسانه، أن
أترك له ثروة من العقل والأدب، هي عندي خير ألف مرة من ثروة الفضة والذهب.
أحب أن ينشأ معتمدًا على نفسه في
تحصيل رزقه، وتكوين حياته، لا على أيِّ شيء آخر، حتى على الثروة التي يتركها له
أبوه، ومن نشأ هذا المنشأ، وألِف ألا يأكل إلا من الخبز الذي يصنعه بيده، نشأ
عَزوفًا عَيوفًا مترفِّعًا، لا يتطلع إلى ما في يد غيره، ولا يستعذب طعم الصدقة
والإحسان.
أحب أن ينشأ رجلاً، ولا سبيل إلى
الرجولة إلاَّ من ناحية العمل، وقلَّمَا يعمل العامل إلاَّ بسائقٍ من الضرورة،
ودافع من الحاجة، وفرقٌ بين الغني الذي يعمل لتنمية ثروته وتعظيم شأنها شرهًا
وفضولاً، وبين الفقير الذي يعمل لتحصيل قُوته، وتقويم أَوَد حياته.
أحب أن يعيش فردًا من أفراد هذا
المُجتمع الهائل المُعترِك في ميدان الحياة، يصارع العيش ويغالبه، ويزاحم العاملين
بمنكبيه، ويفكر ويتروى، ويجرب ويختبر، ويقارن الأمور بأشباهها ونظائرها، ويستنتج
نتائج الأشياء من مقدماتها، ويعثر مرة وينهض أخرى، ويخطئ حينًا ويصيب أحيانًا؛ فمن
لا يخطئ لا يصيب، ومن لا يعثر لا ينهض؛ حتى تستقيم له شؤون حياته.
ذلك خير له من أن يجلس في شُرْفة من
شُرَفِ قصره، مطلاًّ على العاملين والمُجاهدين، يمتع نظره بمرآهم، كأنما يشاهد
رواية تمثيلية في أحد ملاعب التمثيل.
أحب أن يمر بجميع الطبقات، ويخالط
جميع الناس، ويذوق مرارة العيش، ويشاهد بعينيه بؤس البؤساء، وشقاء الأشقياء، ويسمع
بأذنه أنَّات المتألمين، وزفرات المتوجعين؛ ليشكر الله على نعمته إن كان خيرًا
منهم، ويشاركهم في همومهم وآلامهم إن كان حظه في الحياة مثلَ حظهم، ولتنمو في نفسه
عاطفة الرفق والرحمة، فيعطف على الفقير عطفَ الأخ على الأخ، ويرحم المسكين رحمة
الحميم للحميم.
أما الغني الذي لم يذُقْ طعم الفقر في
حياته، فقلما يشعر بآلام الناس ومصائبهم، أو يعطف على بَأْسَائهم وضرَّائهم، فإن
حاول يومًا أن يمد يده بالمعونة إلى بائس أو منكوب، فعَلَ ذلك متفضلاً ممتنًّا، لا
راحمًا ولا متألمًا.
والألم هو الينبوع الذي تتفجر منه
جميع عواطف الخير والإحسان في الأرض، وهو الصلة الكبرى بين أفراد المجتمع
الإنساني، والجامعة الوحيدة التي تجمع بين طبقاته وأجناسه، بل هو معنى الإنسانية
ورُوحها وجوهرها، فمن حُرِمه حُرِم كلَّ فضيلة من فضائل النفس، وكلَّ مَكرُمة من
مَكْرُماتها، وأصبح بالصخرة الصلدة الصَّمَّاء أشبه منه بالإنسان الناطق.
أُحب أن يجوع ليجد لذة الشِّبَع،
ويظمأ ليستعذب طعم الرِّيِّ، ويتعب ليشعر ببرد الراحة، ويسهر لينام ملء جفونه؛ أي:
إنني أحب له السعادة الحقيقية التي لا سعادة في الدنيا سواها.
وما السعادة في الدنيا إلاَّ لمحات
كلمحات البرق تخفق حينًا بعد حين في ظلمات الشقاء، فمن لا يرى تلك الظلمات لا
يراها، وأشقى الأشقياء أولئك المترفون الناعمون الذين يوافيهم الدهر بجميع لذائذهم
ومشتهياتهم، فلا يزالون يُمعنون فيها، ويتقلبون في جنباتها، حتى يستنفدوها،
فيستولي على عقولهم مرض السآمة والضجر، فيتألمون من الراحة أكثر مما يتألم التَّعِب
من التَّعَب، ويقاسون من عذاب الوجود أكثر مما يقاسي المحروم من عذاب الحرمان، وقد
تدفعهم تلك الحالة إلى الإلمام بمشتهيات غريبة لا تتفق مع الطبيعة البشرية، ولا
تدخل تحت حكمها؛ تفريجًا لكربتهم، وتنفيسًا عن أنفسهم، وما هؤلاء المساكين الذين
نراهم سهارى طوال لياليهم في ملاعب القمار ومجالس الشراب ومواقف الرهان إلاَّ
جماعة الفارِّين من سجون السآمة والملل، يعالجون الداء بالداء، ويفرُّون من الموت
إلى الموت.
أُحب أن يكون غنيًّا بالمعنى الحقيقي،
لا بالمعنى الاصطلاحي؛ أي أن يكون مُستغنيًا بنفسه عن غيره، لا كثير المال
والثراء، وما سُمِّي المال غنًى إلا باعتبار أنه وسيلة إلى الغنى وطريق إليه، وهو
اعتبار خطأ، ما في ذلك ريب، فإن أكثر الناس فقرًا إلى المال، وأشدهم طمعًا في
إحرازه، وأعظمهم مُخاطرة بكرامتهم وفضائل نفوسهم في سبيله، هم الأغنياء أصحاب
المال والثراء، وإن كان في الدنيا شيء يسمى قناعة واعتدالاً فهو من جانب الفقراء
المقلين، أكثر منه في جانب الأغنياء المُكثرين، ولا يزال المرء يعتبر المال وسيلة
إلى الحياة وذريعة من ذرائعها، حتى يكثر في يده، فإذا هو في نظره الحياة نفسها،
يجمعه ولا يدري ماذا يريد منه، ويعبده وهو لا يرجو ثوابه، ولا يخشى عقابه، ويستكثر
منه وهو على ثقة من نفسه بأنه لا ينتفع بقليله، فضلاً عن كثيره، وإذا بلغ المرء في
حالته العقلية إلى درجة أن تنقلب في نظره حقائق الكون، وتتغير نواميسه، فيرى
الرؤوس أذنابًا، والأذناب رؤوسًا، والوسائل غايات، والغايات وسائل، فقُلْ على عقله
السلام.
لا أكره أن ينشأ ولدي غنيًّا، ولا أحب
أن أُعرِّضه لمخاطر الفقر وآفاقه، ولكني أخاف عليه الغنى أكثر مما أخاف عليه الفقر.
أخاف عليه أن يعتد بالمال اعتدادًا
كثيرًا، ويَقْدُره فوق قدره، ويعتبره الكمال الإنساني كله، فلا يهتم بإصلاح أخلاقه
وتهذيب نفسه، وألا يجد مَن حوله من أصدقائه ومعارفه مرآة يرى فيها هَنَاته وعيوبه؛
لأن عشراء الأغنياء متملقون مداهنون، يطوون سيئاتهم، ويزخرفون حسناتهم.
أخاف عليه أن تستحيل نفسه إلى نفس
مادية جامدة، لا تفهم من شؤون الحياة غير المادة، ولا تُعنى بشيء سواها، فيصبح
رجلاً قاسيًا صُلبًا، ميت النفس والعواطف، لا يرحم بائسًا، ولا يعطف على منكوب،
ولا يرثي لأمَّة، ولا يبكي على وطن، ولا يشترك في شأن من شؤون العالم العامة خيرها
وشرها، ولا يعنيه - ما دام راضيًا عن نفسه، مغتبطًا بحظه - أَسقطَتِ السماء على
الأرض أم بقيت في مكانها.
أخاف عليه أن يحتقر العلوم والفنون
والآداب، ويزدري المواهب والعقول والفضائل والمزايا، فيصبح عار أمته وشَنَارها،
ووصمتها الخالدة التي لا تزول، ومن أُشرب قلبُه حب المال، ونزل من نفسه إلى
قرارتها، لا يحترم غيره، ولا يقيم إلا لأربابه وزنًا، ويخيل إليه أن مَن عداهم من
الناس لا قيمة لهم في الحياة، بل لا حق لهم في الوجود.
أخاف عليه إن تزوج أن يأبى الزواج إلا
من غنية يرى أنها هي التي تليق بمقامه ومنزلته، ومن اشترط الغنى في زوجة قلَّما
يستطيع أن يشترط شيئًا سواه، فيسقط في زواجه سقطة يشقى بها طول حياته من حيث لا
ينفعه ماله ولا جاهه.
أخاف عليه إن وَلَد ألا يجد بين
أوقاته ساعة فراغ يتولى فيها النظر في تهذيب ولده وتربيته، فيتركه صغيرًا في أيدي
الخدم، وكبيرًا في أيدي عشراء السوء، فيصبح نكبته الكبرى في حياته، وعاره الدائم
بعد مماته.
أخاف عليه أن يقضي أيامه ولياليَه
خائفًا مذعورًا، مروَّع القلب، مستطار الفؤاد، تقتله الخسارة إن خسر، ويصعقه
فَوْتُ الربح إن فاته، ويطير بنومه وهدوئه، ويذهب براحته وسكونه: هبوطُ الأسعار،
ونزول الأسهم، وتقلبات الأسواق، وخسران القضايا، ومنازعات الخصوم، والآفات
السماوية، والجوائح الأرضية.
وما حُزنُ الفقير الذي أنفق آخر درهم
بيده - من حيث لا يعرف له طريقًا إلى سواه - على نفسه وعلى مستقبله: بأشدَّ من حزن
الغني الشحيح على الدرهم الذي نقص من مليونه، أو الذي كان يُؤَمِّل أن يتمم به
مليونه فلم يُتح له.
وما ليلة البائس المسكين الذي يتصايح أولاده
من حوله جوعًا ولا يجد ما يسد به رَمَقهم: بأطول من ليلة الغني الذي يسقط إليه
الخبر بأن سلعة قد نفقت، أو أن سهمًا من أَسْهُمه قد نزل.
ولقد رأيت بعيني من جُنَّ وهو واقف
ينظر إلى قصر من قصوره يحترق، وسمعت كثيرًا من حوادث المُنتحرين والمصعوقين على
أثر النكبات المالية والخسائر التجارية التي لا تُفقرهم، ولا تصل بهم إلى درجة
الإملاق، وكلُّ أثرها عندهم أنها تنقلهم إلى منزلة في الغنى أدنى من منزلتهم
الأولى.
أخاف عليه أن يصبح واحدًا من أولئك
الوارثين المستهترين الذين لا عمل لهم في حياتهم سوى هدم حياتهم بأيديهم، وهدم ما
ترك لهم آباؤهم وأجدادهم من مال وجاه، فأندب حظي في قبري، وأقرع السنَّ على أن لم
أكن فارقت هذه الحياة، ولا مال لي فيها ولا ولد.
وما أزال أذكر حتى الساعة أنني مررت
بأحد شوارع القاهرة من بضع سنين، فرأيت في مكان واحد منه منظرَيْنِ مُختلفين
متناقضين؛ رأيت غلامًا من الوارثين جالسًا بإحدى الحانات يمرح في نعمائه، وآخر من
المُتشردين نائمًا تحت الرصيف على مقربة منه يضطرب في بأسائه، أما الأول فقد كان
جالسًا بين مائدتي شراب وقمار، تسلب الأولى عقله، والأخرى مالَه، وقد أحاط به
جماعة من الخلعاء الماكرين، يلعبون بعقله لعب الغلمان بالكرة في ميادينها، يضحكون
لنكاته، ويؤمِّنون على أقواله، ويصدقون أكاذيبه، ويتحركون بحركته، ويسكنون بسكونه،
وهو يقهقه بينهم قهقهة المجانين، ويصيح صياح الثعالب، أما الثاني فقد كان عاريًا
إلا قليلاً، يفتح إحدى عينيه من حين إلى حين كلما رنَّت في أذنه ضحكات هؤلاء
السكارى وضوضاؤهم، ويضم ركبتيه إلى صدره كلما أحس بصوت مركبة مارة بجانبه، وقد
يبسط كفَّه أحيانًا وهو مغمض إن خُيِّل إليه أن يدًا تمتد إليه بالإحسان، ولا يد
هناك ولا إحسان.
رأيت هذين المنظرين الغريبين
المتباينين، فثارت في نفسي في تلك الساعة عاطفتان مختلفتان؛ عاطفة البغض والاحتقار
للأول، وعاطفة الرحمة والشفقة على الثاني، وقلت في نفسي: لو كان لي ولد، وكان لا
بد له من أن يكون أحد هذين الغلامين؛ إما الوارث الجالس فوق الرصيف ينثر الذهب
نثرًا، أو المتشرد النائم من تحته يسأل الناس لقمة فلا يجدها، لفضَّلت أن أراه بين
فئة المتشردين، على أن أراه بين جماعة الوارثين؛ لأني أرجو له في الأولى أن يجد
بين الراحمين راحمًا يحسن إليه، ويستنقذه من شقائه، ويأخذ بيده في طريق الحياة
الطيبة الصالحة، أما في الثانية، فإني لا أرجو له شيئًا.
إن للرحمة طيشًا كطيش القسوة والشدة،
وأَطْيَشُ الراحمين ذلك الذي يستنفد أيام حياته في جمع الثروة لأولاده دائبًا ليله
ونهاره، لا يهدأ ولا يفتُر، من حيث يُغفل النظر في شأن تربيتهم وتعليمهم؛ ضنًّا
بهم أن يزعج نفوسهم بشيء من تكاليف الحياة وأثقالها، فإذا ذهب لسبيله وخلَّى بينهم
وبين ذلك المال الذي جمعه لهم، لا يكون لهم من الشأن فيه أكثر مما يكون لجماعة
الحمالين في الأثقال التي يحملونها من مكان إلى آخر، فهم ينقُلونه من خزائنه شيئًا
فشيئًا إلى خزائن الخمارين والمرابين والماهرين حتى ينتهي، فإذا فرغوا منه جلسوا
في عَرصَاتهم المقفرة جِلسة الباكي الحزين، صِفْرَ الأكف، فارغي الجيوب، مُطرِقي
الرؤوس، لا حول لهم ولا حيلة، قد أضاعوا حياتهم وحياة آبائهم وأجدادهم، وهدموا في
عام واحد أو عامين قرنًا كاملاً مجيدًا من أعلاه إلى أسفله، ولا يعلم إلا الله
ماذا يكون شأنهم بعد ذلك، ولو أن أباهم كان يرحمهم رحمة حقيقية، ويشفق عليهم
إشفاقًا صحيحًا، لَرَحِمَهم من هذا المصير المحزن، وضنَّ بهم على هذا الميراث
المشؤوم.
يقولون: إن الفقر يدفع إلى الجرائم والقتل وارتكاب
السرقات، وأنا أقول: إننا إذا استطعنا أن نفهم الجريمة بمعناها الحقيقي، وألا
ننخدع بصور الألفاظ وألوانها؛ فإن للأغنياء جرائم كجرائم الفقراء، بل أشد منها
خطرًا، وأعظم هولاً، فإن كان بين الفقراء اللصوص، والقتلة، والعيارون، وقاطعو
الطريق، فبين الأغنياء المحتالون، والمزورون، والمغتصبون، والخائنون، والمداهنون،
والممالئون، وأصحاب المعامل والشركات الذين يغذون أجسامهم بدماء عمالهم، والتجار
الذين يسرقون من الأمَّة في شهر واحد باسم الحرية التجارية ما لا يسرقه منها جميع
لصوص البلد وعياروه في سنة كاملة، والقوَّام والأوصياء الذين يرثون التركات من دون
وارثيها، ويأكلون أموال اليتامى والمعتوهين باسم صيانتها والمحافظة عليها،
والسماسرة الذين يغتالون الأسواق بأجمعها، والمرابون الذين يختلسون الثروات
بأكملها، والسياسيون الذين يسرقون الممالك بحذافيرها، على أن الجرائم اللصوصية
والسرقة والقتل ليست جرائم الفقر، بل جرائم الغنى، فلولا شح الأغنياء بأموالهم،
وكَلَبُهم عليها، وحيازتها عن الفقراء، لما وُجد في الأرض قاتل، ولا سارق، ولا
قاطع طريق، ولا يسرق السارق ولا ينهب الناهب ولا يلص اللص إلا جزءًا من حقه الذي
كان يجب أن يكون له، لو كان للمال زكاة، وللرحمة سبيل إلى الأفئدة والقلوب.
ليفتح الأغنياء المدارس، وليبنوا
الملاجئ، وليُنشئوا المصانع والمعامل للعاطلين والمتشردين، وليتعهدوا المنكوبين
والساقطين في ميدان الحياة بالمساعدة والمعونة، فإن وجدوا بعد ذلك لصوصًا أو قتلة
أو مجرمين فليتهموا الفقر، ولينعوا عليه جرائمه وآثامه.
لا أريد أن أقول: إن الغنى علة فساد الأخلاق، وإن الفقر
علة صلاحها، ولكن الذي أستطيع أن أقوله عن تجرِبة واستقراء: إني رأيت كثيرًا من
أبناء الفقراء ناجحين، ولم أرَ إلا قليلاً من أبناء الأغنياء عاملين.
إن العلوم والمعارف، والمُخترعات
والمُكتشفات، والمدنيَّة الحديثة بأجمعها - حسنة من حسنات الفقر، وثمرة من ثمراته،
وما المداد الذي كُتبتْ به المُصنَّفات، ودُوِّنت به الآثار، إلا دموع البؤس
والفاقة، وما الآراء السامية، والأفكار الناضجة، التي رفعت شأن المدنية الحديثة
إلى مستواها الحاضر، إلا أبخرة الأدمغة المُحترقة بنيران الهموم والأحزان، وما
انفجرت ينابيع الخيالات الشعرية، والتصورات الفنية، إلا من صدوع القلوب الكسيرة،
والأفئدة الحزينة، وما أشرقت شموس الذكاء والعقل في مشارق الأرض ومغاربها إلا من
ظُلمات الأكواخ الحقيرة، والزوايا المهجورة، وما نبغ النابغون من فلاسفة وعلماء،
وحكماء وأدباء، إلاَّ في مهود الفقر وحجور الإملاق، ولولا الفقر ما كان الغنى،
ولولا الشقاء ما وُجدت السعادة.
إن المُجتمع الإنساني اليوم ميدانُ
حرب يعترك فيه الناس ويقتتلون، لا يَرحم أحد أحدًا، ولا يلوي مقبل على مُدبر،
يَعْدون ويُسرعون، ويتصادمون ويتخبطون، ويأخذ بعضهم بتلابيب بعض، كأنهم هاربون من
معركة، أو مُفْلِتُون من مارستان، ودماء الشرف والفضيلة تسيل على أقدامهم، وتموج
موجَ البحر الزاخر، يغرَق فيه من يغرق، وينجو من ينجو.
أتدرون لِمَ سقطت الهيئة الاجتماعية
هذا السقوط الهائل الذي لم تصل إلى مثله في دور من أدوار حياتها الماضية؟ ولِمَ
هذا الجنون الاجتماعي الثائر في أدمغة الناس خاصتهم وعامتهم، علمائهم وجهلائهم؟
ولِمَ هذه الحروب القائمة، والثورات الدائمة، والنزاع المستمر بين البشر جماعاتٍ
وأفرادًا، وقبائلَ وشعوبًا، وممالك ودولاً؟ لا سبب لذلك سوى شيء واحد، وهو أن
الناس يعتقدون اعتقادًا خطأ أن المال أساس السعادة وميزانها الذي توزن به، فهم
يسعَوْنَ إليه لا من أجل القُوت وكفاف العيش - كما يجب أن يكون - بل من أجل الجمع
والادخار، والمال في العالم كَمية محدودة لا تكفي لملء جميع الخزائن، وتهدئة كافة
المطامع، فهم يتخاطفونه، ويتناهبونه، ويتصارعون من حوله كما تتصارع الكلاب حول
الجِيَف المطَّرحة، ويُسمون عملهم هذا تنازع الحياة أو تنازع البقاء، وما هو
بالتنازع ولا التناظر؛ إنما هو العراك والتناحر، والدم السائل، والعدوان الدائم، والشقاء
الخالد.
والعلاج الوحيد لهذه الحال المُخيفة
المُزعجة أن يفهم الناس أنْ لا صلة بين المال وبين السعادة، وأن الإفراط في الطلب
شقاء كالتقصير فيه، وأن سعادة العيش وهناءته، وراحة النفس وسكونها، لا تأتي إلاَّ
من طريق واحد، وهو الاعتدال.
الآن أستطيع غير خاشٍ لومًا ولا
عَتْبًا أن أقضي للناشئ الفقير على الناشئ الغني قضاءً لا مُجاملة فيه ولا محاباة،
ومن ذا الذي يُجامل الفقراء ويحابيهم؟ وأن أقول للناشئ الفقير: صبرًا يا بُني
وعزاءً؛ فإنك لم تخلق إلا للعمل، فاعمل واجتهد، ولا تعتمد في حياتك إلا على نفسك،
ولا تحصد غير الذي زرعتْهُ يدك، فإن لم تجد معلِّمًا يعلمك فعلِّم نفسك، والزمن
خير مؤدب ومهذب، وإن ضاقت بك المدارس فادرس في مدرسة الكون، ففيها علوم الحياة
بأجمعها، وإن كنت ممن لا يَعُدُّون وظائف الحكومة ومناصبها غُنْمًا عظيمًا كما
يعدها القعدة العاجزون، فها هو ذا فضاء الأرض أمامك، فامشِ فيه، وفتِّش عن قُوتك
كما تفتش عنه الطيور القواطع التي ليس لها مثل عقلك وفطنتك، وحيلتك وقوَّتك، فإن
الله لم يخلقك في هذا العالم، ولم يبرزك إلى هذا الوجود، لتموت فيه جوعًا، أو
تهلِك ظمأ، ولا تصدِّق ما يقولونه لك من أن الناشئ الغني أسعد منك حالاً أو أوفر
حظًّا، وإن راقك منظره، وأعجبك ظاهره؛ فلكل نفس همومها وآلامها، وهموم الفقر على
شدتها أقلُّ هموم الحياة وأهونها، وحسبك من السعادة في الدنيا ضمير نقي، ونفس
هادئة، وقلب شريف، وأن تعمل بيدك، فترى بعينيك ثمرات أعمالك تنمو بين يديك
وتترعرع، فتغتبط بمرآها اغتباطَ الزارع بمنظر الخضرة والنماء في الأرض التي فلحها
بيده، وتعهدها بنفسه، وسقاها من عرق جبينه.